|
الصفحة الرئيسية | العدد 71 | اتصلوا بنا |
|
سنّة الإصلاح والتغيير.. تقويم النفس أولاً |
محاضرة لسماحة
العلامة السيد مرتضى الشيرازي (دام عزه) ألقاها في مقر جمعية فاطمة الزهراء النسوية |
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين..
من أين يبدأ الإصلاح؟ هذا هو أهم سؤال شغل فكر البشرية على
مرّ التاريخ..
من أين يبدأ التغيير؟ ومن أين تبدأ مسيرة الإصلاح؟ في أمة من 60 مليون نسمة أو 120 مليون نسمة كاليابان، أو من مليار و100 مليون شخص كالصين.. قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). من أين تبدأ مسيرة الإصلاح؟!!. البعض يرى أن المسيرة تبدأ بالتغيير الاقتصادي، والآراء في هذا الحقل متضاربة، كما أن البعض يرى أن الإصلاح يبدأ من نظام الخصخصة، والبعض الآخر في المقابل يرى أن الإصلاح الاقتصادي يبدأ من التأمين؛ ليس المهم المفردات بل المهم هو الفلسفة الكلية؛ فالبعض يرى أن التغيير يبدأ اقتصادياً ويتموج لينعكس على سائر مناحي الحياة، وهناك من يرى أن التغيير يبدأ سياسياً، ثم يتموّج، كما أن هناك من يقول بنظرية الديكتاتور العادل؛ من هنا يبدأ التغيير - وفق هذه النظرية -. لكن هل يمكن أن يكون الديكتاتور عادلاَ؟ أم أن بين العدالة والديكتاتورية علاقة تضاد؟!. البعض يرى أن التغيير السياسي يبدأ من التعددية السياسية، والبعض يرى أن التغيير على مرّ التاريخ يبدأ تكنولوجياً؛ فالذي يمتلك التكنولوجيا المتطوّرة تكون بيده مفاتيح التغيير. هناك الآن وادي يسمى (وادي السبليكزن) هذا الوادي في أمريكا، يضمّ خيرة العقول التكنولوجية، واليهود مسيطرون على هذا الوادي بالدرجة الأولى.. وهكذا فإن هنالك آراء متعددة في هذا الحقل، لكن ما هو الرأي السليم؟، الرأي السليم هو ذلك الذي أشار إليه القرآن الكريم؛ إن التغيير لا يبدأ سياسياً، بتطبيق التعددية الحزبية أو السياسية - مثلاً - أو نظرية الديكتاتور العادل، كما لا يبدأ اقتصادياً عبر الخصخصة أو التأميم أو ما شابه ولا يبدأ تكنولوجيا.. إنما يبدأ - على حسب نص القرآن الكريم - من حقيقة بسيطة إلى أبعد الحدود، هي أن التغير يبدأ من داخل الإنسان، فإذا تغير الداخل تغير كل شيء، وإذا لم يغير بقي كل شيء على حاله (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). فإذا تغيرت الذات تغير الاقتصاد وتغيرت السياسة وتغير الاجتماع وتغير كل شيء نحو الأحسن، إذا تغيرت الذات نحو الأحسن، تغير كل شيء نحو الأحسن والعكس بالعكس. إذن ينبغي أن نفكر على هذه الطريقة، فإذا آمنت أن بمقدوري أن أحقق معجزة فسأحقق المعجزة، وإذا آمنت أن بمقدوري أن أحقق شيئاً قليلاً سأحقق الشيء القليل. نذكر لكم بعض النماذج: قبل حوالي 70 سنة كان هناك طفل ربما في السادسة أو السابعة من العمر، هذا الطفل كان يعيش في بلد عربي وهو من عائلة فقيرة، وكانت ملامحه أفريقية كان مهاناً في أوساط التلاميذ الصغار، لكن هذا الطفل كان يؤمن بأن بمقدوره أن يصنع شيئاً عظيماً، وذات مرة وهو في الصف الابتدائي، سأل الأستاذ التلاميذ، قائلاً: (ما هو هدفكم المستقبلي؟) أحد الأطفال قال: (هدفي أن أصبح محامياً، الثاني قال: هدفي أن أصبح طبيباً، الثالث قال: هدفي أن أصبح معلماً)، أما هذا الطفل الفقير فقال: (أما أنا فهدفي أن أصبح رئيس جمهورية مصر)، الأطفال ضحكوا عليه، المعلم ضحك عليه أيضاً، لأنه لم تكن لديه الكفاءة من ناحية ظاهرية، لكن هذا الطفل كان يؤمن في داخله بأنه يمكن أن يصبح رئيس جمهورية مصر.. والأيام مرت وبالفعل أصبح هذا الطفل رئيس جمهورية مصر، هذا الطفل كان أنور السادات، هذا الرجل السيئ القلب والظاهر كان طفلاً عمره سبع سنوات، لكنه كان يحمل هذا الطموح رغم ضلاله، فكيف بالمحق؟ وكيف بولي الله؟ ألا يمكن أن يصل؟! إذا التغيير يبدأ من الداخل، فلو أنني آمنت أن بمقدوري أن أصنع المعجزة، فسآتي بشيء غير عادي لا محالة؛ هناك شيء كان الناس قديماً يبحثون عنه يسمونه الكيمياء -بالمفهوم القديم طبعاً- والكيمياء مادة معينة كانت تخلط، وتطلى على مادة معدنية، فتحولها إلى ذهب، هذه المادة كان البعض يشكك في وجودها والبعض الآخر يثبت وجودها وفضلاً عن ذلك كانت هناك مادة أخرى تسمى كيمياء الأنفس، فعندنا إذاً كيمياء مادية وكيمياء الأنفس. وهكذا يجب أن يحاول الإنسان بإرادة راسخة، أن يذهب -مثلاً- إلى السيدة زينب الكبرى عليها السلام ويطلب منها طلباً كأن يقول: أنا صممت على تغيير ما بنفسي وأن أحدث معجزة في نصرة مذهب أهل البيت عليهم السلام، وبلا شك سيحصل التوفيق هنا. هذه حقيقة كيمياء الأنفس؛ أحياناً بكلمة واحدة تغير مسيرة أمة، وأحياناً يدور التاريخ كله على كتفي رجل وامرأة؛ فعلى سبيل المثال نذكر قصة امرأة توفيت حديثاً في بريطانيا، امرأة مسيحية، بلغت الثامنة والتسعين من عمرها، توفيت العام الماضي، هذه المرأة كتبت 730 كتاباً وقصة ورواية، نعم هي امرأة مسيحية متدينة استطاعت أن تكتب 730 كتاباً في حين أن هناك عشرات الملايين من النساء لا يكتبن كتاباً واحداً. فما هو الفارق؟!!.. الفارق أن تلك المرأة آمنت أن بمقدورها كتابة 730 كتاباً وبالفعل كتبت وأنجزت وتقدمت، وقد طبعت من كتبها مليار نسخة.. فإذا آمنت الآن، فسأغير الكثير من الواقع؛ التغيير يبدأ من الداخل، عبر الإيمان بإمكانية التغيير، وليس بالتمني، بل ببذل الجهد وإفراغ الوسع ندرك معالي الأمور، والشاعر يقول: من طلب العلا سهر الليالي يغوص البحر من طلب اللآلئ فالإنسان إذا قرر في أعماقه قراراً حازماً، فسيدرك مطلبه حتماً.. كانت هناك امرأة في مدينة (مشهد المقدسة) طاعنة في السن، ولا أعلم ما إذا كانت مازالت حية؟ قبل أربع سنوات كانت لم تزل على قيد الحياة، هذه المرأة جاءت مع مجموعة من تلاميذها إلى زيارة السيد الوالد قبل ست أو سبع سنين، هذه المرأة بمفردها ربّت 4000 طالبة علم، تخرجن على يدها، عبر أربعين سنة من عمرها، وهذا غير يسير.. علماً بأن مجرد أن يلتقي الإنسان أربعة آلاف شخص، ليس قليلاً، فكيف بتربية وإعداد أربعة آلاف عالمة؟! هؤلاء العالمات ينتشرن الآن في أرجاء إيران وغيرها من البلدان، ويتصدين لمهام التبليغ.. فما ميزة هذه المرأة عن كل النساء المؤمنات؟ الفرق هو القرار، تلك المرأة اتخذت هذا القرار، وآمنت بقدراتها وكفاءاتها، آمنت بتلك الكلمة الخالدة لأمير المؤمنين (ع) حيث قال: (من رام أمراً ناله) هذا ليس كلاماً عادياً بل هو كلام أمير المؤمنين (ع) الذي هو حجة الله على الخلق كله، هو كلام صادر عن منبع النور والوحي السماوي؛ من رام (من قصد) أمراً ناله، يعني إذا أنت قررت أن تهدين 100 مليون امرأة، لأمكنك ذلك على حسب كلام أمير المؤمنين، رغم كل الصعوبات والإمام (ع) لم يقل أمراً صغيراً أو كبيراً، أو أمراً اقتصادياً، اجتماعياً أو سياسياً، هذه الكلمة على حسب الاصطلاح الأصولي مطلقة؛ يعني أن من كل الجهات من رام أمراً أي أمر كان، فإنه يبلغه لا محالة، شريطة توافر النية والقصد والعزم الذي لا يلين أمام المعوقات مهما كانت، كان السيد الوالد يردد هذه الآية الشريفة: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)، فإنه يعني أن الإنسان تارة يأخذ قضية من القضايا بضعف، فيقول: (نحن إنشاء الله نحاول أن نهدي 1000 شخص)، لكن بتردد، فإذا تحقق ذلك فيها، وإذا لم يتحقق فلا بأس، هذا في حين أن شرط النجاح هو أن نأخذ الأمور بقوة وعزم راسخ.. فغاية القول أن التغيير يبدأ من الداخل؛ فإذا قرر الإنسان قراراً جدياً، قراراً حقيقياً، بأن يصنع معجزة فستحدث عندئذ، سيكون نفسه تلك الكيمياء التي تحدث التغيير في نفوس الملايين دونما شك.
قال أمير المؤمنين (ع): (وتحسب نفسك جرماً صغيراً وفيك
انطوى العالم الأكبر)، فالعالم الأصغر انطوى فيه عالم البشرية، وعالم
الملائكة وعالم الجن، وكذلك العوالم الماورائية الأخرى التي لا نعلم عنها
شيئاً كلها منطوية في داخل الإنسان، وطبعاً هذا بحث منفصل -لا ندخل فيه
حالياً- ويرتبط ببحث التجرد النفسي، وكيف أن النفس تملك طاقة هائلة جبارة إلى
أبعد الحدود، يقول الشاعر الفيلسوف: (النفس في وحدتها (يعني وهي واحدة) كل
القوى (يعني كل القوى الكونية)!).
ثم إن الأعمال الضخمة، أو التي تشبه المعجزة قد تبدأ بخطوة، فهناك مثل صيني معروف يقول: (رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة) الألف ميل هذه الرحلة الطويلة تبدأ بخطوة.. في المرحلة الأولى لا بد من القرار ولا بد من الإيمان بالواحد الأحد (تخلقوا بأخلاق الله) وفي المرحلة الثانية لا بد من جدولة زمنية حتى يمكن ترجمة الأعمال العظيمة التي نحلم بها، إلى خطوات عملية ملموسة على أرض الواقع؛ فنحن نسمع بدول تطبق خطة خمسية أو خطة عشرية؛ فكل واحد منا ينبغي أن تكون لديه خطة سنوية أو خطة شهرية، أو خطة يومية؛ فمثلاً: في الصباح عندما استيقظ أفكر أن أنجز مهمات حتى المساء، ومن ثم في آخر الليل أفكر في نفسي، هل أنجزتها أم لا؟ (ليس منا (أي الأئمة) من لا يحاسب نفسه) فلا بد لكل منا أن يضع لنفسه خطة، ثم يفكر فيما أنجز وفيما لم ينجز، فإذا بدأنا بهذا المنهج، فسنقفز قفزات جبارة إلى الأمام، بلطف الله سبحانه وتعالى وكرمه؛ فالقرار أولاً، ثم الجدول الزمني ثانياً، وثالثاً نظرية القطرات والذرات.. الوالد ألف كتاباً بهذا الاسم (القطرات والذرات) فكل قطرة يجب أن تستثمر، كل قطرة من ماء الوجه، هذا رزق من الله، فكل امرأة منكن تمتلك ماء وجه في المجتمع، لها مكانة، لها منزلة، هذه نعمة من الله، فترى الإنسان يتألم إذا جرحه أحد في كرامته لماذا؟ لأن قليلاً من ماء الوجه أريق؛ ماء الوجه رزق من الله إلينا، وسيحاسبنا عليه غداً، فالآية القرآنية الكريمة تقول: ((ولتسألن يومئذ عن النعيم)) تعلمون أن القرآن له ظهر وله بطن، له سبعون بطناً، فالمصداق الأجلى للنعيم هو الولاية لأمير المؤمنين (ع) والأئمة المعصومين من ولده، هذا هو المصداق الأجلى، لكن هناك مصاديق أخرى لماذا؟ لأن النعيم منه ماء الوجه، والله سبحانه يسألني عنه يقول: أنا أعطيتك ماء وجه، فهل أنفقته في سبيلي؟ أي مقدار أفنيت منه؟. المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير المرجع الأعلى للشيعة في ذلك الزمان والذي تصدى للإمبراطورية البريطانية وهزمها واقتلع جذورها في إيران، في قصة التنباك الشهيرة، وذلك ببضعة كلمات تقول: (إن تعاطي التنباك في هذه الأيام هو في حكم محاربة الإمام الحجة(عج)). وينقل في جملة أحوال هذا المرجع الديني الكبير، أنه كانت ترده أموال ووجوه شرعية هائلة، لكنه مع ذلك كان مديناً لأحد التجار بمبلغ ضخم من المال، فلما حضرته الوفاة، كان هذا التاجر جالساً عنده وقد بدى عليه الهم والقلق على ماله، هنا أحس منه الميرزا (ره) ما يدور في خلده من أفكار، فالتفت إليه قائلاً: (لا تقلق فأنا قد أوصيت لك في أموالك، ولكن دعني أقول لك: أنت تفكر بأن الميرزا سيموت، فمن الذي سيفي بالدين؟، أما أنا فأفكر مع نفسي بأن الله وهبني ماء الوجه الذي كان بمقدوري أن أنفق منه أكثر لأقدم للشيعة خدمة أكبر، فإذا سألني الله تعالى: لماذا لم تفعل ذلك؟ فماذا سأقول؟ أنا اقترضت منك مبلغاً من المال، فإذا سألني الله: كان بمقدورك أن تقترض أكثر مع قليل من بذل ماء الوجه، هذه النعمة التي وهبتك إياها، فلماذا لم تفعل؟ فماذا سيكون جوابي؟).
بالفعل هكذا كان يفكر ذلك الرجل العظيم، فدعونا نحاسب أنفسنا
كل ليلة، كم أنفقنا من ماء وجهنا في الموضع المناسب، في سبيل الله..
الوقت أيضاً من نعم الله سبحانه وتعالى، فأنا أحاسب نفسي كم أنفقت من وقتي في سبيل الله وهل قطرة من قطرات ماء الوجه أريقت عبثاً؟ هل أصرف وقتي في موضع لا يرضي الله؟ الوقت عليه حساب، بل حتى الثانية عليها حساب.. ينقل أن حلاقاً كان مشغولاً في حلاقة الرأس المبارك للإمام أمير المؤمنين (ع) وتزيين محاسن وجهه الشريف، فلما بلغ شاربه المبارك، كان الإمام(ع) مشغولاً بالذكر، فقال له الحلاق: (حبذا لو أطبقت شفتيك لثانيتين أو ثلاث حتى أتمكن من قص الشوارب بشكل منظم، ولا أحدث جرحاً في شفتيك المباركتين)، فأجابه الإمام بجواب عجيب، حيث قال: (الوقت أسرع وأثمن من هذا أنت تريد مني أن أقطع الذكر لثانيتين، كلا استمر فيما أنت فيه، وأنا استمر فيما أنا فيه! ). إذن حتى الثانية من عمرنا لها قيمتها، ويمكن أن نوظفها في أمر عظيم!. السيد الوالد -كما رأيته- يستثمر كل لحظات حياته، ولذلك أعطاه الله هذا التوفيق العظيم، فمؤلفاته تجاوزت الآن الـ (1200) كتاب.. وذات مرة قال لي كلمة، جعلتني أكبر فيه هذه الروح العظيمة، وكشفت لي سراً من أسرار توفيقه، حيث قال: (أنا عندما كنت شاباً صغيراً طلبت من الله سبحانه ثم من الإمام الحسين (ع) أن يوفقني لكتابة ألف كتاب)، انظروا إلى هذا الطموح، إنه طلب أن يوفق لكتابة 1000 كتاب، فنال ما يريد وزيادة. إذن، هذا الرجل، اتخذ القرار ودعا بالتوفيق، ثم راح يستثمر كل ثانية من وقته، ووفق ذلك التوفيق العظيم.. ثم صار السيد الوالد يطلب من الله سبحانه، ومن الإمام الحسين (ع)، أن يوفقه لكتابة ثلاثة آلاف كتاب، وهذا الأمر ليس بعزيز على الله سبحانه. تصوروا هذا الطموح مع أنه الآن كبير في السن وصحته لم تعد كصحة الشباب، إلا أن روحه قوية، كما أنه يؤمن -كما قلنا- بهذه النقاط الثلاث: القرار الحازم والجازم، الجدولة الزمنية، والمحاسبة اليومية، القطرات، فهو لا يضيع قطرة من وقته ولا ذرة من حياته؛ فالتغيير لا يبدأ سياسياً ولا اقتصادياً ولا تقنياً، بل يبدأ من داخل النفس. وإلى ذلك ينبغي علينا جميعاً أن نضع هذه الآية الشريفة: ((ولله الحجة البالغة)) نصب أعيننا، فقد وردت رواية في تفسيرها، يستفاد منها أن العبد يحس غداً في حضرة الله سبحانه، وكأنه لا شيء، لا عذر له في تقصيره؛ فأنا عندما أقف في حضرة القدس الإلهي، ويأتي السؤال: قد وهبناك العقل والصحة والمال وماء الوجه، فكيف شكرت النعمة التي أنعمتها عليك؟ فقد أقول في جواب هذا السؤال: يا رب صحيح أنت أنعمت علي، ولكنني في قبال ذلك بنيت مئة مسجد و مئة حسينية -مثلاً- ثم لم تلبث أن تسقط حجتي هذه، عندما يأتوني بشخص آخر مثلي فيقول: (أنا بنيت ألف مسجد وألف حسينية.. ) حينئذ سأشعر بضعف موقفي، وسأقع في حيرة لا أجد منها مخلصاً. نستفيد من ذلك أنه مهما بلغنا وبالغنا في أعمالنا الحسنة، فهي تبقى دون مستوى أداء حق الشكر، مما يلزم منه أن أعمالنا تظل ناقصة، ولا يجب أن توصلنا إلى حالة الرضا والركون.. ذلك أن البارئ عز وجل قد أودع فينا طاقات عظيمة، يمكن لو استثمرناها على الوجه الأمثل، أن نحقق بها ما يفوق التصور، أو يشبه المعاجز، في ميدان العمل. وفي الختام نأتي على ذكر قصة الشيخ الحلبي، لتضمنها عبرة بالغة، فهذا الشيخ كان من أجلة أهل العلم والفضيلة وقد ربّى جيلاً عريضاً من العلماء والفضلاء، من خلال تأسيسه تنظيماً يعنى بشؤون ولي الأمر الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه، وكان لهذا الرجل مسلك خاص في الفلسفة، بحيث كان يعتقد تماماً بآراء الفلاسفة، ويتمثل كلامهم، ويتعلق به كثيراً، إلى أن وفق للسفر إلى مدينة مشهد المقدسة ليصادف أستاذه الشيخ الميرزا المهدي الأصفهاني الذي أثبت جدارة فائقة في تدريس علوم الدين، والفقه وأصوله.. وكان الميرزا ممن علق أيضاً بالفلسفة، لكنه كان متردداً حيالها، فالتجأ إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، فأوضح له الإمام (ع) بطلان الفلسفة بمبانيها المعروفة (وحدة الوجود، العقول العشرة.. )، مما أحدث انقلاباً في فكر الميرزا، وجعله يتخذ منها موقفاً متميزاً؛ إذ سرعان ما شمّر عن ساعديه، ليتصدى لمهمة تهذيبها وتخليصها مما علق وغار فيها من فساد ناجمٍ عن الانحراف والشطط والاستغراق في التوهان الفكري، وبالفعل أحدث الميرزا هزة عنيفة في هذا الوسط، وتغير على يديه جم غفير من التلامذة والعلماء، ومنهم الشيخ الحلبي الآنف الذكر، هذا الشيخ كان قوي الشكيمة ممتنعاً في الفلسفة، ظل يغالب أستاذه الميرزا ويجادله أشهراً.. وذات يوم وبعد أن بلغ الميرزا في مناقشة تلميذه، غاية الصبر والتحمل، قطع الميرزا النقاش، ونظر إليه نظرة حنان وإشفاق رباني، قائلاً له: (يا حلبي! غير من ذاتك، فهذه كلها أباطيل، ولا أدري كيف تعتقد بها؟) هذه الكلمة أحدثت فعل البرق في نفسية الحلبي، وغيرت من وجهته، وأزالت الغشاوة من على عينيه، وحولته إلى شخص آخر تماماً.. هذا هو التوفيق والتسديد الرباني، وهذا هو عينه ما نطلق عليه كيمياء النفس. إذن، يترتب علينا أن نحرص في حياتنا القصيرة والسريعة الزوال على أن نخلف ذكراً وأثراً طيباً، وأن لا نتحول إلى مجرد وجود أتى لكي ينتظر موعد رحيله، وهو أمر يحتاج إلى طول المسألة من الله تعالى، وكثرة الدعاء والتوسل بأهل بيت النبوة الأطهار(ع). والحمد لله رب العالمين. |
|