في إحدى الليالي المكية، جالسةً صوب البيت العتيق، أدعو الله وأعرجُ إليه، أتأمل بهاء ذلك الحرم المقدس، أتحسس غدو ورواح ملائكة العرش، أتنهد حسرةً على ذاك الغريب، أشكو لرب العرش مامسَّنا من لُغُوبٍ ونَصَب، فأدعو بدعاء الغريق.
أناجيه كالبائس الفقير، وأستعين به على زمان الغربلة والوحشة، وأتألم لمغيب النبي والوصي، وقلة الناصر والمعين، وإنعدام الأمن والأمان، وفساد أغلب ماكان ومَن كان.
ومابين دعاءٍ وإبحار فكري، تذكرت ذلك اليوم، الذي سمعت فيه جملةً، فأجبتها في قرارة نفسي: (الدعاء والإستغاثه كبني إسرائيل وما فائدتها إن لم يُغير الإنسان ما في نفسه).
خلال مُشاهدتي لفلمٍ تأريخي، لمن سبقنا من الأولين، وكان يوحي للمشاهد أن الخلاص يكون بالدعاء والإستغاثة، لرب العزة والملكوت؛ لإستسقاء الظهور ونيل الغيث المنهمر لتروية البشر والروح والأرضين، فبعدها حاولت أن أبدأ بدعاء العهد كل صباح، ولكن سرعان ما إستشعرت اليأس من نفسي، كيف لها بالعهد من دون وفاء، فحالت ذنوبي عن العهد، فطلبت الفرج منه بعد كل صلاة بزَمزَمة "اللهم عجل لوليك الفرج".
ولكن من يُنادي بالفرج، كيف له بالنصرة، ولم يَتَسَلَح بعدُ بدرعٍ حصين، فولَّيتُ هاربةً له، بروحي وجسدي، فزحفت نحو شَخصه، الذي لطالما كنت أستشعره عند ندائي: (ياصاحب الزمان أدركني).
فوجدته أصدق محبوبٍ وجِد، وأفضل غيثٍ يُغيث، فدلني بلطفه على جماعةٍ بالصدفة، ولعلها ليست كذلك، شاركوني حُبه، وكانوا أسرع العاشقين له، قد بادروا بالتضرع والعروج، لخالق الناس، من شر الجِنةِ والناس، حِفظاً له، وقضاءً لحوائجه، وفرجاً له من جبال الهم، التي لطالما أثقلت قلبه الشريف، ففي الأسبوع الأول وفقتُ للمشاركة في جلسة الهائمين بحبه، وكان موعد اللقاء في الليلة المباركة، قبل أذان المغرب بساعة، ولكن لم أكن مقتنعةً بالأمر أيضاً، فالإكتفاء بقراءة زيارة آل يس، ومناجاة الإمام (عجل الله فرجه)، وقول "اللهم عجل لوليك الفرج"، إلى وقت الأذان، فهو عملٌ يسير يستطيع الكل إقامته حتى في بيته ولوحده.
فخاطبتُ النفس: (حتى إن لم تستطيعين المجيء للمجلس، فيمكنكِ أن تقومِ بهذه الأعمال في البيت).
ولكن مضت الأسابيع تلو الأخرى، ولم أوفق للذهاب لجلسة الإستغاثة (كما كانوا يُسَّموها)، وحتى لم أعقدها مع نفسي حتى، لكثرة مشاغل الحياة، ولعلها لم تكن عَرَضاً، بل كانت تأديباً من رب العالمين؛ لعدم إعتقادي الكامل بالدعاء، وكيف أن له الأثر الوضعي حتى من غير عمل.
(فإن لم أبدأ بإصلاح نفسي أولاً، فكيف الظهور؟) جُملةٌ عَلَلتُ بها عدم الدعاء بالخلاص،
ولم أكن أعلم أن بركة كل شيء تَتُم بالدعاء، وطلب العون من الله، ومن ثم الشروع بهِ، فالحمدلله الذي هداني وماكنتُ لأهتدي، فقد أتى موعد اليوم الذي إستغثت فيه لله بتعجيل الفرج، بعد أن سمعت إلهاماً قد إنبعث من أعماق قلبي، عند غروب أحد الخميسات، وكان ذلك يوم سعدي وإنطلاق روحي من سجن الجسد، وتغيُر حالي وأحوالي.
فمن سعادة المرء توفيق الباري له إلى الدعاء لولي أمره ونعمته، وهو من موجبات استزادة النعم، وترك الأنانية، وتفعيل الإيثار في النفس، وفرار الشيطان عن الداعي، وسواد وجهه وتهدم قواه.
فكان من مصاديق إستجابة الدعاء له، وجودي بقرب الكعبة، وزيارتي لقبر النبي (صلى الله عليه وآله)، وقبور الأئمة من ذريته (عليهم السلام) كم من نعمةٍ كانت من فضل جوده، ووجوده، وكرمه.
(آهٍ آه، ليتني أحضى بالحضور بين يديه ونصرته، ليت الزمان يتحول إلى زمن الظهور، وأنال الشهادة بين يديه نُصرةً له)، كلماتٌ دعوتُ بها من أعماق قلبي، عند هطول قطرات المطر في المَقدس المكي، وإذا بنسائمٍ ربيعية، قد أزاحت عني ماكان يختلج في النفس، ویعتصر القلب، لقد أشغلني طيبُ رّيحُها، حيث أعادت البهجة للفؤاد، وأخضرت الروح بعد كسادها، وإذا بصوتٍ مجهول الشَخصيّة، يسمعهُ كل قاصٍ ودانٍ: "ألا ياأيها العالم، قد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، هذا تأويل ماقد جاء من رب السماء"، "ونريد أن نمنَّ على اللذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين"، "وتوفى كلُ نفسٍ ما كسبت وأنتم لا تظلمون".
فإذا بالذي كنت أتمنى يَهبِط كشهابٍ ثاقب، قد أخذ محلاً في الركن اليماني، حاملاً راية النصر، ما أشد شباهتها بالأمس، فيَهُزُها فتسطَع، وتُرفرف بنورها، كأنها لُوجةٌ، فتملئ بضياءها مابين الخافقين، وعلى إثر ذلك إجتمع حوله رجالٌ قد صدقوا ماعاهدوا الله عليه، على غير ميعاد، قد حَثَوا من كلِ صوبٍ وحدب، منهم من حملتهُ السُحب، ومنهم مَن طويت له الأرض، وبعضاً مَن عادت له الحياة بعد الموت، فخرج من قبره شاهراً سيفه مؤتزراً كفنه؛ وقد نَهض من قبره إلى سيدِهِ، بعد دعوةٍ مُستجابةٍ كانت في دنياه، "اللهم إن حال بيني وبينه بالموت الذي جعلته على عبادك حَتماً مقضياً فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي".
وهكذا، فبعد تمام عِدَّتهم والعدد، تنطلق عمليات الإبادة للظالمين، وبسط العدل في ربوع الأرضين، والإقصاء بالحق فهم لا يَظلِمون.
اضافةتعليق
التعليقات