(فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فاذا عزمت فتوكل على الله، ان الله يحب المتوكلين).
يارسول الله! أنت في مستواك الرفيع.. الرفيع.. فوق الآخرين. وسيبقى الآخرون دونك، مهما حلقوا. ومهما حاولت أن تحلق بهم، فإنهم لن يرتفعوا إليك. أنت تنتشلهم عن حمأتهم بقدرتك المتفوقة على انتشال الساقطين، وهم يتسامون باتخاذك قدوتهم ومثلهم، ولكن يبقى الفاصل بينك وبينهم بعيداً.. بعيداً.. وهذا الفاصل في المستوى يجعلهم مخطئين تجاهك حتى عندما يحسنون، فكيف بهم عندما يسيئون؟! لأنهم أمامك أدنى من أن يتعرفوا عليك، حتى يكتشفوا الحسنى في مستواك. فحسناتهم إليك: حفنة تمر، قصعة لبن، تحية بدوية...؛ سيئات يستحقون عليها العقاب. وأما سيئاتهم إليك: فجرائم، يصغر فيها العقاب. فأنت لا تحاسبهم بمقاييس مستواك، بل حسابهم بمقاييس مستواهم الذي يصنفهم في مصاف الأطفال.
والطفل يظلم وهو بريء، فإذا أساء يقابله وليه بثلاثة أعمال:
1- يحاول أن يبرئه حتى لا يحقد عليه، فيلقن نفسه أن هذا.. طفل لا يملك المقاييس الصحيحة لمعرفة الأمور، فإساءته لا تحمل معنى الإساءة. وأنت عامل الآخرين ذات المعاملة، (فاعف عنهم).
2-يحاول أن يبرر موقف الطفل إذا صدرت إساءة منه أمام غيره، حتى لا ينظر إليه أحد بازدراء. وأنت حاول أن توجد المبررات للآخرين أمام الله، حتى لا يعاقبهم بمواقفهم منك: (واستغفر لهم)؛ كما كان يفعل ذلك وهو يدعو: اللهم! اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون.
3-يحاول أن يقابل إساءته بمعالجة تربوية تمنعه من تكرر تلك الإساءة، كالطبيب الذي يراقب المريض لاكتشاف الظواهر المرضية من أجل معالجتها، لا كالعدو الذي يراقب عدوه لاكتشاف نقاط الضعف من أجل اقتحامه منها.
(و) أنت يارسول الله إذا رأيت من الآخرين سيئة ناتجة من انحطاطهم عنك، اعمل على تصعيد مستوياتهم، ف(شاورهم في الأمر) المطروح أمامك، حتى توحي إليهم بأنهم كبار، لهم آراء يؤخذ بها في مجالات المصالح العليا للأمة، ليحركوا أدمغتهم، وليعاملوا أنفسهم على أنهم كبار عليهم أن يرتفعوا عما لا يليق بالكبار، ولا يظلوا في حلقة الصغار التي لا تفرق بين ما يليق وما لا يليق.
ولكنك أنت نبي، تختلف نظرتك إلى الأمور عن نظرة الآخرين:
1-نظرتك إلى الأمور نظرة كاملة. فلك جانبان: جانب سماوي به تتلقى الوحي، وجانب أرضي به تفرغ الوحي. وبهذين الجانبين تشرف على الأمور من أعلى، فتحيط بها من كل جوانبها، على أساس الرؤية الكاملة. فيما للآخرين جانب واحد هو الجانب الأرضي، وهو جانب محدود، فنظرتهم إلى الأمور جانبية، على أساس الرؤية الناقصة.
2-نظرتك إلى الأمور نظرة منطلقة. لأنك تنظر إليها بالعين المجردة، التي ترى الأشياء رؤية موضوعية، فحكمك عليها منطلق من واقعها. بينما الآخرون ينظرون إلى الأمور نظرة شخصية، لأنهم ينظرون إليها بمنظار مصالحهم، الذي يشيع عليها الدخان، فحكمهم عليها منطلق من واقعهم.
3-نظرتك إلى الأمور نظرة دقيقة. فلك من قدراتك الذاتية الهائلة، ومن مقاييس الوحي؛ ما يمكنك من استيعاب الأمور استيعاباً كلياً، ومن قياسها قياساً صحيحاً. فيما نظرة الآخرين إليها سطحية، فقدراتهم ضعيفة، ومقاييسهم ارتجالية، لا يتمكنون بها من استيعاب الأمور، وقياسها قياساً صحيحاً. فتقييمك للأمور، تقييم كامل موضوعي دقيق. وتقييم الآخرين، تقييم ناقص جانبي سطحي.
فأنت شاورهم في الأمر المطروح أمامك: لتربيتهم على التفكير، وللإيحاء إليهم بالمشاركة، وعدم اعتبارهم مجرد أدوات تنفيذية. ولكن لا تتقيد بآرائهم: فإذا كانت رؤيتك تدعوك إلى اتخاذ موقف معين، ورؤية الآخرين تدعو إلى معاكسة موقفك؛ فامض أنت في الطريق الذي تراه صحيحاً. (فإذا عزمت) على أمر، فلا تبال بما يراه غيرك، فعزيمتك هي الصحيحة.
ثم: إن لك حصانة من قبل الله، فهو وليك الذي يرشدك، ويسددك بالوحي وبالملائكة، فلا يدعك على موقف غير مناسب. فإذا عزمت على أمر ولم يعترض الله (فتوكل على الله)، واعتمد على عدم اعتراضه، فإنه دليل على سلامة موقفك.
فالشورى التي أمر بها الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، طريقة تربوية للأمة، وليست طريقة لكيفية حكم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا.. ما يرشد إليه سلوك الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأمة، وسيرته الكريمة، ف:
1-إن رسول الله لم ينظم مجلساً للشورى، مؤلفاً من أصحاب الرأي في الأمة، بأي شكل من الأشكال، حتى يرجع إليه للتداول في الأمور، واتخاذ المواقف والقرارات، كما كان ينبغي لو أن الشورى كانت طريقة للحكم. وإنما كان يجمع المسلمين، ويطرح أمامهم الأمر الجديد، ويستطلع آراءهم، لمجرد تحريك أدمغتهم وإشعارهم بالمشاركة، ثم يتخذ الموقف المناسب.
2-لم يضع أي نظام للشورى في عهده أو بعد عهده: فلم يعين ما إذا كانت الشورى تعني مجلساً لأصحاب الرأي، أو استفتاءً عاماً من كل الأمة؟ ولا عين مواصفات أعضاء المجلس إذا كان هناك مجلس. ولا حدد نسبة الأصوات التي يتخذ بها، هل هي نسبة معينة، أو لا بد من الاجماع؟ وما هو العلاج إذا اختلفت الأصوات بنسب متعادلة أو متفاوتة؟ ولا أشار إلى نوعية الأمور التي يجب أو ينبغي الشورى لها. ولا ورد عنه نص يتعلق بأي شيء من تفاصيل الشورى.
3-لم يتقيد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) بآراء المسلمين فيما يخالفونه الرأي في مجال الحكم ولو بالإجماع أو بما يشبه الإجماع، كما اتفق في (صلح الحديبية)، وفي تقسيم غنائم (معركة أحد)، وفي قطع يد السارقة وإنما كان يمضي حسب رؤيته الصادقة بتسديد الوحي، ثم يكتشف خطأهم وصوابه.
4-وفي كثير من الأحيان، لم يكن الرسول (ص)يطلع المسلمين على اتخاذ موقف، وإنما يأمرهم بأمر لا يعرفون وجهته، وإذا خرج إلى غزوة ورى بغيرها، وهكذا كان يكشف لهم بعد ذلك صواب الرسول (ص) وخطأهم.
5-وإذا كان أحد من المسلمين يعترض على رأي رآه رسول الله، كان القرآن يوقفه عند حده، بالتقريع القاطع:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).
فلا رأي ولا شورى ولا خيار... إذا كان لرسول الله رأي؛ ولو كان في ما يخص الأفراد، بل:(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...).
6-وعملياً، لم يستشر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين إلا في عدة أمور، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بل لا تبلغها؛ وهو يقوم ب:
تأسيس نظام، وتكوين أمة، وإقامة دولة؛ هذه الأمور الشائكة الضخمة، التي تستدعي مجلساً مفتوحاً طوال فترة رسالته، لو أن الشورى كانت طريقة للحكم بالنسبة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم).
والمسلمون فهموا أن الشورى تربوية، فلم يسألوا عن شيءٍ من تفاصيلها وهم يجدون رسولهم يؤمر بها من قبل الله تعالى، رغم أنهم المكثرون من الأسئلة فيما يعنيهم وفيما لا يعنيهم.
نزعات الخير منتشرة في الناس، جميع الناس. ونزعات الشر منتشرة في الناس، جميع الناس باستثناء المعصومين (عليهم السلام).
وعليك: أن تكافح الشر في مصدره، لا أن تقضي على مصدره، وإلا لاقتضى ذلك أن تقضي على جميع الناس.
وعليك: أن تجمع الخير من مصدره، لا أن تقدس مصدره، وإلا لاقتضى ذلك أن تقدس جميع الناس.
إن الخير والشر خيوط متداخلة، وباستطاعتك أن تفعل كالعدسة، فتجمع خيوط الخير والشر.
أما أن تنزه الناس جميعاً فتجعلهم ملائكة، فمستحيل، لأنهم بشر وأما أن تشوه الناس جميعاً فتجعلهم شياطين، فمستحيل، لأنهم بشر.
ومشكلة العالم: أن فيه معارك كثيرة، وصلوات قليلة. وإذا كانت المعارك تنشب في القلوب، فإن الصلوات ترتفع في العقول وأعقد المشاكل هي الصلوات التي ترتفع في القلوب، للانتصار المنفرد، لا للنجاح المشترك.
اضافةتعليق
التعليقات