قبل أيام داهم دارنا زائر لطيف، هزت الباب بيديها تطلب الدخول وما إن فتحنا الباب حتى مرت كلمح البصر داخلة دون استئذان وتمددت في زاوية الدار مطلقة صوتا مؤلما يأخذ القلب في ترنيمته، رقَّ قلب أمي قائلة لنا: احضروا لها الطعام فهي حبلى وبعثها الله لنا فرزقها هنا، مرت الأيام وأصبحت هذه الزائرة بين الفينة والأخرى تطرق قلوبنا حتى اختفت بعدها ليومين متتاليين ظن الجميع أنها مامن عودة لها، وفي لحظة سكون رأيناها تنزل أدراج الدار وهي خفيفة كالريشة اختفى ثقل وزنها مما جعلنا نتساءل هل ياترى ولدت؟!
وبعد متابعة لطيفة منا وجدناها قد ولدت في الغرفة الفارغة داخل دارنا وتحولت من زائر إلى مقيم رغماً عنا فكل محاولاتنا بإبعادها باءت بالفشل فقد قررت أن تسكن معنا وأحضرت صغارها الثلاثة إلى أمي لتريها إياهم لعلها تشعر بشعورها كأُم تطلب الملجأ الآمن لصغارها فلا يشعر بشعور الأُم سوى أُم مثلها، ومازلت أنظر لأمي وهي تسعى لتغذية القطة (سمسمة) كما دعتها لنعومتها وجمالها وكيف تعتني بها قائلة أن الله الذي لا يترك مخلوقا له في حيرة، هو من بعثها لأنه يعلم قلوبنا ولا يرد متوكلا طرق بابه فهم أقوام مثلنا يدعون الله فيستجيب لهم فأُمي تملك القناعة التامة أن التوكل يشمل كل ماخلق الله دون استثناء، مما جلعني أبصر في مكامن نفسي عن التوكل وكيف انتابني الشك أنني لا أجيد ماهيته بل كل ما أعرفه عنه كلمةٌ صيغ بها.
التوكل مركز للإطمئنان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له فهو من ينير القلب ويسكنه مساكن الطمأنينة، فإن أجل العبادات التي يَتعبد الإنسانُ بها لربه هي: عبادة القلب، بل جُل أركان الشريعة كالإحسان، والإيمان كلها عبادات قلبية، لا يتحقق إيمانُ عبد بدونها، وهذه العبادات ليست مجرد معان تُدرك في الأذهان، بل هي عبادات وقواعد يريد الله تعالى من عباده أن يُرى أثرها عليهم في حياتهم، وإن من أهم قواعد القرآن هي قاعدة التوكل حيث تملأ القلب يقيناً وطمأنينة فلقد وعد الله عباده ومن أصدق منه وعداً فقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، أي مَن توكل على ربه ومولاه في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وفَعل ما أمر به من الأسباب، مع كمال الثقة بتسهيل ذلك، وتيسيره (فَهُوَ حَسْبُهُ) أي: كافيه الأمرَ الذي توكل عليه به، وآيات القرآن الكريم طافحة بالحديث عن التوكل، وفضله، والثناء على أهله، وأثره على حياة العبد حيث إن التوكل على اللّه عز وجل مطلوب في كل شؤون الحياة، كما في قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وأيضا قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وغيرها من الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى موطن التوكل فيها ففي كثير من الأحيان حين تصيبنا وعكة الجزع وقلة الصبر والتعب من وضعنا الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم تنهار جوارحنا ونذهب بكل الأسباب التي أدت إلى فشلنا بأنها من صنيع الخالق وأن كل مافعلناه أصبح هباءً لا ذكر له، وفي نهاية الأمر حين نتلقى النصح نردف قائلين «لقد توكلنا فلم يجب» غير منتبهين أننا قد وقعنا في شباك التواكل وهو نقيض التوكل وأراد الله أن نتوكل لكن لم يرد بنا أن نتواكل، فلو تساءلنا عن ماهية التوكل الحقيقية سنجد أن مكانه قلب المؤمن، وأما الأخذ بالأسباب فمكانه الجوارح والأعضاء فالتوكل عامة يجمع شيئين أحدهما: الاعتماد على الله والإيمان بأنه مسبب الأسباب وأن قدره نافذ.
والثاني: تعاطي الأسباب فليس من التوكل تعطيل الأسباب بل التوكل يجمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله ومن عطلها فقد خالف الشرع والعقل، لأن الله عز وجل أمر بالأسباب وحث عليها سبحانه وأمر رسوله بذلك وفطر العباد على الأخذ بها، فلا يجوز للمؤمن أن يعطل الأسباب، فلو نستذكر قصة مريم (عليها السلام) حيث إنها لم تدع الأسباب حين توكلت على الخالق في أمرها فعند قوله تعالى لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، وهنا أمر لها بالأسباب وقد هزت النخلة، حتى وقع الرطب فليس في سيرتها ترك الأسباب والتوكل دون الأخذ بها، فكلاهما مكمل للآخر، وهنا أدركت أنني في بعض مطارح كنت شخصاً متواكلاً ولم أتوكل، فالتوكل هو اعتقاد في النفس أن الشيء لا يكون إلا بإرادته، والتفويض جوهر التوكل، وفي التفويض إذعان وثقة، وفي الثقة معنى العبودية لله تعالى، فالتوكل إيمان، واعتقاد، وأخذ بالأسباب، ودعاء وسعي، وكل ذلك يجعل الإنسان في عداد المتوكلين الذين ملأ الله قلوبهم بالثقة به، والإعراض عما سواه، فكفاهم وآواهم.
اضافةتعليق
التعليقات