تتعرض مقولة النظام الأبوي (البـطـركيـة) لـدى شرحها إلى مـا ينتقص من مضمونها، وهي في ذلك كغيرها من المفاهيم التفسيرية الأساسية، ومن المفيد بادئ ذي بدء أن أوضح مفهومي لتعبير النظام الأبوي المستحدث. (neopatriarchy) ان استخدامي هذا التعبير في متن الكتاب يرتكز على تصوري له في حالات عدة، واشارته إلى معان عـدة، يعتمد فهم كل منها عـلى مـوقـعـه في سياق النص فيستخدم على أنه مقولة تحليلية أو نموذج مثالي أو مبدأ تفسيري أو نظرية شكلية. يشير مفهوم النظام الأبوي المستحدث على السواء إلى بني كبرى (المجتمع، الدولة، الاقتصاد) وبني صغرى (العائلة أو الشخصية الفردية). وتاريخياً تستمد ظاهرة النظام الأبوي المستحدث معناها من تعبيرين أو واقعين يؤلفان بنيتها المادية، هما الحداثة والنظام الأبوي.
يكفي أن نلاحظ هنا أن التعبير الثاني يدل على شكل عام للمجتمع التقليدي، في حين يشير التعبير الأول إلى تطور تاريخي مميز، اتخذ شكله الأصلي في أوروبا الغربية فـكـان ذلك أول انفصـال تاريخي عن النظام التقليدي.
إن هذا التحول الفريد في تخطيه النظام الأبوي قد عمل على صياغته فأدى هذا التحول نفسه إلى ارساء التمايز بين النظام الأبوي التقليدي، والنظام الأبوي المحدث، وهذا التمايز في صلب نقاشنا، ويتـوجب الأخذ بالنظام الأبوي المحدث باعتباره نتيجة سيطرة أوروبا الحديثة. وبما أن «التحديث، نتيجة النظام الأبوي والأوضاع الناشئة عنه، لا يمكن ألا أن يكون «تحديثاً» تابعاً، ومن المحتوم ألا تؤدي علاقات التبعية إلى الحداثة بل إلى نظام أبوي وتحدث»، أي النظام المستحدث.
في هذا المقام فإن التحديث كناية عن الحداثة مقلوبة رأساً على الأبوي وعليه، فإن الفروق التي نقيمها بين تقليدي وتقـدمي، ومحافظ وجذري فيما يتعلق بالمجتمع العربي المعاصر يجب أن تخضع لتعريفات واضحة. أحد الافتراضات الأساسية في هذا الكتاب هو أن بني النظام الأبوي في المجتمع العربي على مدى المئة عام الأخيرة لم يجر تبديلها أو تحديثها، بل إنها ترسخت وتعززت كأشكال «محدثة» مزيفة، ذلك أن اليقظة العربية أو النهضة التي شهدها القرن التاسع عشر لم تعجز عن تفتيت أشكال النظام الأبوي وعلاقاته الداخلية فحسب، لكنها عمدت أيضاً وبإشاعتها ما اطلقت عليه لقب اليقظة الحديثة، إلى توفير تـربة صالحة لإنتاج نوع هجين وجديد من المجتمع (لثقافة أي مجتمع) ثقافة النظام الأبـوي المستحدث الذي نراه ماثلا أمامنا في الوقت الراهن. وعمل التحديث المادي، وهو أول دلائل التغير الاجتماعي، على إعادة تشكيل بني النظام الأبـوي وعـلاقـاتـه ثم تنظيمها وتعزيزها بمنحها أشكالاً ومظاهر «عصرية».
إن النظام الأبوي المستحدث ليس عصرياً أو تقليدياً، لا من الوجهة الحداثية ولا من الـوجهـة الاتباعية، إنه، وعلى سبيل المثال، تشكل اجتماعي يفتقر إلى الخصائص المشتركة التي تتحلى بها الجماعة، وتعوزه مظاهر الحـداثـة التي ينعم بها المجتمع. الأبوية المستحدثة إذن تشكل اجتماعي مهدورة طاقته، ومتميز بطبيعتـه الانتقالية وضروب شتى من التخلف والتبعيـة ـ وهذا كله متجسّد في اقتصـاده وبنيـة طبقاته، وكذلك في تنظيمه السياسي والاجتماعي والثقافي. وعلاوة على ذلك فهو تشكل غير مستقر أبدا بالمرة، تفسخه التناقضات والنزاعات الداخلية، ويمزقه والحنين والندم والحزن»، على حد تعبير عالم النفس اللبناني علي زيعور). ومن المستحيل التوصل إلى فهم دقيق لتصور النظام الأبوي المستحدث دون التعرف إلى تعبيريه الضمنيين والسابقين له، أي الأبويـة والتبعية، ذلك أن هذا التعرف يمكننا من فهم الأبوية المستحدثة برمتها، في نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ـ ورؤيتها على أنها تشكل تاريخي ملموس قولبته قوى داخليـة وخارجية متزامنة. وباعتماد وجهة النظر هذه، فإن المشكلة المنهجية (والعقائدية) التي تنشأ عن التعارض بين الموقف «الداخلي» والموقف «الخارجي» تنحـل وينهض مكانها منظور موحد يرتكز على التأليف بين الموقفين. وعندما نواجه مشكلة التحديث في اطار السوق العالمية التي يهيمن عليها الغرب يبرز سؤال أساسي: هـل التحديث ممكن دون تطور رأسمالي؟ إن نظرية التغـير الاجتماعي التقليدية في نمطيهـا الماركسي والفيبري تصور الرأسمالية على أنها مرحلة ضرورية لتحول المجتمع. وفي حين ربط ماركس الرأسمالية بالتحـديث في سياق «الثورة» اعتمد فيبر(Weber) على «العقلنة» في رؤيته الرأسمالية. وفيما يختص بالعالم غير الاوروبي فقد رأى كلاهما أن الرأسمالية - بصفتها قوة «ثورية» أو «عقلانية» قابلة للتصدير، فاستبدال البنى التقليدية وغير العقلانية ببنى جديدة سوف يتم حتماً مع تبني عملية تقايض السلع ونمط الانتاج الرأسمالي. إلا أن أيا منها لم يتكهن بظهور رأسمالية تبعية، ومن منظور معاصر فهذه الرأسمالية التبعية هي الشكـل الوحيد للرأسماليـة الممكن نشوأها تاريخياً إثر تنامي الرأسمالية الأوروبية، وفي سـوق عالمية يهيمن عليها الغرب.
وفي الوطن العربي، تسربت الرأسمالية إلى مصر ودول الهلال الخصيب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلا أنها وبدل أن تهيئ الظروف لنشوء رأسماليـة مستقلة فقد خلقت الأوضاع السياسية والاقتصادية لبروز رأسمالية تبعية ومزيفة. وفي ضـوء هذا النمط من الرأسمالية «الهامشية، لم يكن من المعقول أبـدا ظهـور طبقـة بورجوازية ناضجة وطبقة عالية أصيلة.
فما إن كان منتصف القرن العشرين حتى برزت واضحة طبقة اجتماعية هجينة، تختلف عن الطبقة البرجوازية وتتميز عن الطبقة البروليتارية. أن وعي هذه الطبقة، وتماماً مثل بنيتها الاجتماعية، لم يعكس أوضاع البرجوازية أو أوضاع العمال في المدن، بل جاء مركباً فريداً تنقصـه حدة البروليتاريا.
أطلق على هذه الطبقة الهجينة اسم البرجوازية الصغيرة الأبوية المستحدثة، وعلى وعيها صفة الأبوية المستحدثة، وكما أن التشكـل الاجتماعي الأبـوي المستحدث يمتاز بنمط انتاج معين للرأسمالية التبعية، فإنه يمكن تعريف البرجوازية الصغيرة على أنها الطبقة الهجينة السائدة في المجتمع المستحدث.
اضافةتعليق
التعليقات