تتعاقبُ مراحل الخلق في أوليّته، نطفةٌ فعلقةٌ فمضعةٌ، تتكوّر في شكل الأجنة التي تطفو من دون ارتياب في أرحامٍ فاقت إدراك التطوّر الحديث من قابليةٍ عظمى تجمعُ بين الراحة والغذاء والحُب المحض، الذي يعنوّنُ حياة البشر في بدايته ويتفاقمُ إلى حدّ الانهمار في مؤنتهِم التي سيحملونها إلى عالم النور، حيثُ الانتقال من مرحلة المحمول إلى مرحلةِ الحامل المسؤول عن حِملهِ في حياة المادّة.
فيعيشُ المرء غيرَ مُكترثٍ في أوائل عُمره إلا بطعامهِ ومنامهِ وحُضن أبويهِ الذي يراه عرشاً سماوياً خُلق من أجل تجربة النوم في كّنفه، ويعيش هكذا حتى يرتطم بجدار المِعنى في نضجه الأولي لتتبعثر الأسئلة الوجودية حولهُ: من أنا؟ وما هي حقيقة المعبود؟ وإلى ماذا نصبو في هذه الحياة الزائفة؟ وهل أنا مع العيش أم مع الاستقامة؟ وهل أعيشُ لنفسي أم للجماعة؟، وتتزايدُ تلك الأسئلة حتى يوقفها الإنسان بقرار الإجابة أو الهروب إلى الأبد، ولكنَّ السؤال الأعظم الذي قلّما يُزاحمُ إشارات الاستفهام، هو: لماذا نُعنى بالمعنى؟
تصدّر الإنسانُ القديمُ الذي عُرف ب" الإنسان المنتصب" قائمة أوائل المنقرضين عن وجه الأرض والذي رُجّح بأنه عاش عليها لأكثر من مليوني عام، ما خَلقَ سؤالاً غريباً لدى الباحثين وهو: ما سبب العلاقة المبهمة بين طول عمر البشر المنتصبين وسُرعة انقراضهم؟
لقد أوضح العالم الاسترالي سيري شيبتون1 والذي شارك في البحث عن إجابة هذا السؤال، بأن الإنسان القديم كان إنساناً كسولاً يعيش مع المعطيات القريبة والملموسة ولا يُكلّف نفسهُ عناء التحسين، بل يعتمدُ على ما يحويهِ نِطاقُ عينيهِ فقط، وهذا ما أودى بهِ إلى سرعة الهلاك والانقراض، فالفكرة الأساسية تعتمد أولاً على استمرارية السعي والتفكير بالتحسين وهذهِ أولى خطوات المعنى، فالانتقالُ إلى مرحلة أخرى يعني النظرُ من مرتفعٍ يؤهل الإنسان إلى الاتساع وصولاً بهِ إلى القمّة والتي تُعين الفرد على النظر إلى الصورة الكبيرة، والتي اختصرها أميرُ الكلام بعباراتٍ بليغةٍ من خُطبة المُتقيّن، حيثُ قال: "فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأنه لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ."
فاختصر أميرُ المؤمنين (عليه السلام) مفاهيم المعنى في جملة واحدة: "وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ"، فالتجربة الأرضية هي تجربة يقرؤها الإنسان في نفسهِ ووجوده في مملكةٍ يقودها ربٌّ غنيٌ عن مربوبه لكنّهُ حفيٌ به، يخلقهُ فرداً لكنّهُ يريدُ منهُ أن يعود مكتوفاً بالجماعة، يعطيهِ الحق في الوصول متأخراً لكنّهُ يهبهُ البراق بإرادته، كُلُّ ذلك ليستعين بالتفكير ويفّسر الموقف الحاضر حتى يستطيع بذلك ترجمة الآتي.
فالدور الأرضي لا يقتصرُ فقط على العبادة الفردية والتهجد في ثنايا الكهوف وإن كان: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" لكنّه عنون العبادة ب: "الدين المعاملة" والأخيرة ترتكزُ على الذكاء الروحي أولاً والاجتماعي آخراً، فخلقُ الإنسان في إطار العائلة ذلك لاكتسابهِ معنى التواضع لهم والارتقاء معهم، واتساع العائلة إلى المجتمع ذلك يعني أن يجدَ المرء الرابطة التي تُركز الوتد، فأهمية المعنى تكمن في إرادة الرب في أن يكون المخلوق رائداً في تجربة العيش في عالمٍ لا ينتمي له بل يتعلّم منه كيفَ يتفوهُ بالحرف الحي ويتخذ موقف الكبرياء ويطوّر الشعور ليتصل بكل من حوله، المعنى يعني أن نعدَّ العُدّة بما نراه ومع من نراه لأجل ما لا نراه... هكذا فقط نسعى إلى معانينا.[1]
اضافةتعليق
التعليقات