خطورة مسؤولية المثقف ودوره في تكوين البنية الفكرية للمجتمع والمساهمة في تجديد هويته الثقافية، أكسبت موضوع المثقف ودوره ومرجعيته الثقافية والفكرية، حيوية ما زالت تثير أمام الباحثين والمهتمين تساؤلات كثيرة، فكانت هناك جهود علمية مكثفة لدراسة تلك الموضوعات، وقد تمخضت عن تشخيص أزمة المثقف وبيان محنته الحقيقية..
عندما نجري مقارنة بين المثقف الإسلامي وغير الإسلامي، نلاحظ أن الأول لا يعاني وهو يمارس دوره في الدولة الإسلامية من الأزمات التي يعاني منها الثاني، وهذا لا يعني عدم وجود أزمات مشتركة، ولا ينفي وجود أزمات من طبيعة أخرى فالمثقف غير الإسلامي يواجه دائماً:
أولاً: إشكالية شرعية السلطة في بلاده، مما يعقّد أزمته ويهمش دوره النهضوي، للتقاطع الحاد بين مصالح السلطة وأهداف المثقفين. لذا غالباً ما ينتهي الأمر بالمثقف غير الإسلامي، لعدم قدرته على الصمود وعدم شجاعته على اتخاذ مواقف حاسمة، أما التخلي عن قيمه ومبادئه التي آمن بها، أو الاندماج مع الأيديولوجيا السائدة، ويصبح عمله تسويغ ممارسات السلطة الحاكمة، وأما لو قدر له أن يتجاوز ذلك، فسينعزل ثقافياً ليقوم بدور معرفي محض، بعد أن يتخلى عن مسؤولياته الثقافية.
وأما الاغتراب عن الأوطان فهو نصيب بعض المثقفين الذين رفضوا ذلك الواقع، إلا أن هؤلاء تلاحقهم أزمات أخرى ذات آثار سلبية متعددة، لتعرّضهم لظروف تتجاذبهم فيها طموحات وتوجهات تنسجم والواقع الجديد، مما يعيق همومهم الثقافية ويعطل مشاريعهم المستقبلية.
لكن على العكس من ذلك نجد أن المثقف الإسلامي لا يعاني من إشكالية شرعية السلطة، ولا يشعر بالتناقض حينما يواليها ويخلص لها، لأن ولاءه ليس لعصبة السلطان، وإنما للمجتمع، أي الدولة والأمة معاً، والدولة باعتبارها تمثل إرادة الأمة، وتفع عليها مسؤولية ارساء النظام الإسلامي وحاكميته في الأمة.
فالولاء في الحقيقة هو للمبادئ والقيم التي آمن بها من قبل، وجاءت الحكومة الإسلامية لتطبق تلك المبادئ. فهناك إذن فارق جوهري بين أي مثقف والمثقف في الدولة الإسلامية، فالأول عمله تسويغ ممارسات السلطان، وإن اقتضى ذلك تزييف الحقائق، أو استخدام الوسائل غير المشروعة، فهو إنسان مهزوز في داخله، وأسير للإرادة السلطانية.
أما المثقف في الدولة الإسلامية فإنه يعي جيداً العلاقة بينه وبين السلطة، ويتفهم الضرورات والمصالح الكبرى التي تفرض نفسها على الدول، ومحيط بالمعادلات التي تعتمد في اتخاذ المواقف السياسية وغيرها، فيشعر أنه في ظل الدولة الإسلامية أقوى على القيام بدوره، ولنهوض بمسؤولياته للمشاركة في بناء المستقبل.
وتأسيساً على ذلك، نجد أن المثقف الإسلامي لا يختزل دوره إلى مجرد ممارسات معرفية، بل يبقى فاعلاً وناقداً عندما تكون هناك ضرورة للنقد البناء، كما أنه يتابع الأحداث ويحلل الظواهر الإجتماعية، ليبدي رأيه فيها ويسعى لمعالجتها، انطلاقاً من واجبه الرسالي وتكليفه الشرعي.
ونعني بالدولة الإسلامية التي يقف على أرضها المثقف الإسلامي، الدولة التي تعتمد العقل والنقل معاً لتنتج حضارة إسلامية معاصرة، تعتمد الإسلام في حركتها، وتكون قادرة على استيعاب قضايا العصر ومشاكله، وقادرة على فهم التحولات الإجتماعية وآلياتها، وتستفيد من معطيات العلم والتجارب العلمية إلى أقصى حد.
ثانياً: كما يعاني المثقف غير الإسلامي من الاغتراب عن النسق الإجتماعي والسياسي لمجتمعه الذي يعيش في محيطه. ومرد ذلك إلى أن لهذا المثقف أسلوباً خاصاً في الحياة، ونمطاً معيناً في العمل مما يجعله يتحاشى الآخرين ويبتعد عنهم، ويخرجهم عن دائرة اهتماماته.
إن العنصر الأهم في غربة المثقفين، هو المكونات الثقافية التي تغاير ثقافة الأفراد، فما يحمله المثقف من ثقافة عالية تجعله يشعر بالغربة الحقيقية، لأنها تتعارض مع الواقع الإجتماعي.
وتتجلى انعكاسات تلك الغربة لدى المثقفين غير الإسلاميين في الإنعزال عن الممارسات التغييرية في الوسط الإجتماعي، التي ينبغي أن تكون الهم الأول للمثقف.
فالمرجعية الثقافية ينبغي أن تبتني على أساس صحيح وتتكون من مقولات تعكس رؤية حقيقية للقيم والمبادئ، وتشخص حدود الهوية الثقافية، فتضع فواصل حقيقية بين الأنا والآخر، لا تسمح في انصهار الأنا في الآخر، ولا هيمنة الآخر على الأنا هيمنة ثقافية تسلبه كل معالمه الثقافية.
فالمثقف غير الإسلامي إما أن يتخلى عن كل شيء ليلتحق بالآخر (الغرب) بدواعٍ (حداثوية) وحينئذ يعيش غربة حقيقية. أو يحاول أن يجد صيغاً توافقية بين الإسلام والأيديولوجيات الأخرى، فينتج لنا إسلاماً مشوهاً، وحينها يعيش هذا الفرد تناقضاً مريراً في مجتمعه.
أما المثقف الإسلامي فيعتمد مرجعية ثقافية توفر له رؤى فكرية وقيمية يتطلع إلى تحقيقها. وتدفع ثقافته إلى الاندكاك في الوسط الاجتماعي بهدف التغيير، فهو يعمل ضمن همومه الثقافية، وانطلاقاً من دوافعه الدينية الإنسانية.
ومن أهم مهام المثقف الإسلامي في الدولة الإسلامية: بث الوعي، النقد، تبني قضايا الأمة.
اضافةتعليق
التعليقات